ثورة جديدة ضد ثائر سابق
الثورة نحو بنغازي
نجحت الثورة حينها دون إراقة للدماء بعد ان زحفت نحو بنغازي رمز الكبرياء والمقاومة، وسيطرت على كل المؤسسات وأولها مبنى الإذاعة أين أذاع بيانها رقم واحد، ذلك الملازم المغمور الذي عمل بعد القول بكل حماسة وعنف ثوري واندفاع شبابي على تطبيق برنامج الثورة، فعمل على إجلاء القواعد الأمريكية والبريطانية عن أراضي ليبيا وتأميم شركة النفط البريطانية، وقام بإلغاء الدستور والأحزاب والصحافة و استحدث تأريخًا خاصًا بدولته يخالف ما تعارف عليه المسلمون منذ الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب"، حيث رأى أن يؤرخ بدءًا من وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وليس من الهجرة النبوية، ولإضفاء الطابع الإسلامي على الحكم قام بمنع تعاطي الخمور وتطبيق فريضة الزكاة، مستفيدا من شرعية الثورة التي التف حولها غالبية الليبيبن، ولقيت ترحيبا وتهليلا منقطع النظير من كل العرب الذين لازالوا حينها رهائن نكستهم وهزيمتهم المدوية أمام اسرائيل في 1967 وكانوا في حاجة لانتصار ما، لفرحة ما، لشئ ما ينسيهم مآسيهم ويعيد لهم الأمل في غد بدا مفتوح على المزيد من السواد.
ترقى الملازم لرتبة عقيد، وانحدر الرئيس برغبته إلى مجرد أخ، وأصبح الزعيم مجاهدا وقائدا للثورة لا غير، وعَمّرَ الشاب معمر طويلا وجثم على قلوب الليبيين لأزيد من 42 سنة، وأصبح الثائر المغمور أكثر شهرة بين جميع الرؤساء والملوك، وطبع الحياة السياسية بمسلسل من الجنون اللا متناهي، كان الجميع في الداخل والخارج وخاصة في القمم العربية والإسلامية على موعد مع حلقاته المشوقة كل مرة بشكل مفاجأ ودون سابق إنذار، في قوالب مضحكة اقرب "للكاميرا الخفية" منها لسياسة حاكم.
نزع الأخ سترة العسكر وارتدى أثوابا مزركشة متعددة الأشكال تعدد أهوائه ونزواته وخرجاته، استبدل طبيبه وحرسه الذكوري بممرضة حسناء وحارسات شخصيات عذراوات في تحد واضح لمجتمع الفحولة والرجولة، وأصبحت الخيمة منبرا لخطاباته المملة ومسكنا لعائلته الطائشة وقصرا رئاسيا متنقلا وملازما له في كل مكان، بل حتى في أسفاره الداخلية والخارجية حيث تنتصب وسط دهشة واستغراب واهتمام الجميع بمختلف عواصم العالم.
لاشئ ينفرد به الأخ، لا اكتشاف ولا سبق ولا براءة إختراع، فهو إنسان مهووس بالتقليد، فكتابه الأخضر مجرد محاكاة للكتاب الأحمر للزعيم الصيني "ماو تسي تونغ" الذي استوحى منه كذلك فكرة اللجان الشعبية والثورة الثقافية والتجارب الاشتراكية العديدة، والساحة الخضراء بالعاصمة الليبية هي استنساخ لإسم الساحة الحمراء الشهيرة بالعاصمة الروسية، وحتى توصيف العظمى الذي أرفقه بالجماهيرية مأخوذ من بريطانيا العظمى، وحين فشلت محاولاته لتأسيس وحدة عربية على مقاسه على اعتباره وريثا شرعيا "لجمال عبد الناصر" و تحول نحو القارة الإفريقية كانت فكرته الأساسية هي تأسيس منظمة جديدة على أنقاض منظمة الوحدة الإفريقية تحت إسم الولايات المتحدة الإفريقية محاكاة ومنافسة للولايات المتحدة الأمريكية وحين فشل مرة أخرى أصر على تسمية المنظمة بالاتحاد الإفريقي على شاكلة الاتحاد الاوروبي بل أصر على استنساخ نفس مؤسساته كالمفوضية والبرلمان وغيرها.
اتسمت فترة حكم العقيد باللا نظام واللا مجتمع مدني واللا مؤسسات واللا أحزاب واللا إعلام، وبالارتجالية والتخبط والطيش والتهور والاندفاع والهيستيرية إلى حد الجنون، فلا نظام قائم، ولا سياسة عامة، ولا استراتيجية هادفة، ولا دبلوماسية ناجعة، ولا صديق دائم، ولا حليف دائم، ولا عدو دائم، ولا سلام ولا حرب ولا علاقات ولا حسن جوار، حارب جارته مصر التي كان يقدسها، وساند ثورة المسلمين في جارته تشاد وما لبث أن شن حربا عليها ليعود ويفتح لها بعد ذلك سواحله وموانئه، تدخل في شؤون السودان والنيجر وتونس وغيرها، مد يد العون لبعض الثورات وفي نفس الوقت ساند ديكتاتوريات وأنظمة متسلطة، دعم العديد من الحركات التحرر ومن ثم سحب دعمه لها بل حوله للدول المحتلة، ناصب العداء للصهيونية والامبريالية وعلى رأسها أمريكا وابريطانيا وفرنسا وايطاليا وتكبدت دولته خسائر فادحة بسبب الحصار الخانق والعزلة الدولية ومن ثم تحالف معها وقدم لها برنامجه النووي الجنيني على طابق من ذهب وزاد عليه طابق آخر من التعويضات لضحايا لوكيربي واستثمارات ومشاريع وتنازلات تقارب الخيال.
الثورة من بنغازي
هذه المرة تخرج الثورة ضد العقيد نفسه من مدينة بنغازي الثائرة دوما ضد الطغاة، وكأنها ترد له دينه وسلعته البائرة، وكأنها تكنس آخر ما علق بها من ثورته القديمة المشوهة، فلم تنتظر حتى يوم 17 فبراير الجاري موعد الشباب مع التغيير، فقد سبقتهم بيوم إن لم تكن بأكثر، فلم تعد لها طاقة للصبر على معتوه مجنون حولها وليبيا كلها لمجرد مزرعة قذافية تنبت النفط والسخط فقط.
خرج الثوار إذن بعد طول انتظار، بعد أن انفجرت الأرض عن يسارهم ينابيع ثورة تونسية وعن يمينهم جداول ثورة مصرية ولم يطيقوا بعدها عيشا في الوسط بين ثورتين مهما كانت مبررات الاستثناء، وهم الذين كانوا أولى بالسبق وبالبدء، ولكن لا بأس بالمرتبة الثالثة في كل سباق.
فعلها الليبيون أخيرا، فجرها أحفاد عمر المختار ثورة جديدة ضد الثائر القديم، الذي بدا أنه استفاد من ردات فعل النظامين السابقين في تونس ومصر، فكان للثورة بالمرصاد، ولم يتدرج في خطبه ولا في وعوده ولا في أساليب وآليات قمعه ولا في عدد قتلاه، ولم يستعن بالهراوات ولا خراطيم المياه ولا الرصاص المطاطي، بل بدأ منذ اليوم الأول بإمطار الثوار بالرصاص الحي وقتل المئات منهم في كل يوم، ومن ثم محاكاة زميليه "بنعلي" و"مبارك" عبر الاستعانة ببلطجيته وأزلامه وعصابات لجان ثورته وقناصته، وحين لم ينفع ذلك بدأ بإستقدام المرتزقة الأفارقة والأجانب كأسلوب وإختراع قذافي جديد تميز به عن رفيقيه السابقين، وزج بهم في حرب بالوكالة عنه وعن لا نظامه ضد ما يفترض فيهم أنهم مواطنيه، وحين لم يذعنوا لمشيئته، وحين أوغلوا في ثورتهم التي انتشرت كالفطر في كل أرجاء ليبيا، وبدأت تدك أسوار طرابلس العاصمة، اهتدى الثائر السابق من أجل المزيد من التألق والتميز والتفرد لطريقة فريدة وصادمة، إنها الإبادة الجماعية، التي أوجد لها الظروف الملائمة والمناسبة عبر قطع الانترنيت وكل الاتصالات السلكية واللا سلكية، بغية تنفيذ جريمته ضد الإنسانية بعيدا عن الشهود، حيث بدأت طائراته وسفنه الحربية ودباباته في قصف الثوار العزل إلا من الإيمان بحتمية النصر، في مشهد لم يشهده العالم منذ جريمة حلبجة العراقية.
أطل نجل الثائر القديم من على الشاشة، بدون صفة ولا منصب ولا أي شئ غير سبابته التي كانت تنطق بالوعيد والتهديد، أرغد وأزبد، تكلم وتهكم، استهزأ بما يكفي، واستأسد بما يكفي، وزع النعوت الناقصة والأوصاف القبيحة على الثوار الذين ليسوا حسب زعمه سوى مخربون وسكارى ومدمنو حبوب هلوسة.
أطل الأب الثائر السابق بمظلته لثواني فقط، ليقول أنه في طرابلس وليس في فنزويلا وأن بعض الفضائيات مجرد كلاب ضالة.
أطل الأب مرة أخرى ولساعات مملة حاملا معه كتابه واوراقه ومتسلحا كعادته بخزعبلاته وهرطقته وهوسه وجنوه، وكنجله وأكثر توعد وهدد وفسر وشرح وبلغ وعلق، واصفا هذه المرة نفسه بمجد ليبيا والعرب وافريقيا وأمريكا اللاتينية وبأنه هو التاريخ وبأنه أسمى من المناصب وأعلى من الجميع دون أن ينسى ويصف الثوار بالجرذان ومعيدا اسطوانة حبوب الهلوسة التي ربما لديها علاقة وطيدة "بآل القذافي"، ومؤكدا بعد حمام الدماء وجريمة الإبادة والقصف بكل شئ ثقيل أنه لم يستعمل السلاح بعد، وختم خطبة وداعه بالإعلان عن انطلاق الزحف الوطني والأممي المقدس القادم من مختلف الصحاري ليخلصه من تلك الجرذان القذرة التي أدمنت حبوب الهلوسة واستحلت الثورة.
لا يدرك العقيد الذي يفضل مناداته بالأخ حينا وبملك ملوك إفريقيا وعميد حكام العرب وأمير المسلمين أحيانا كثيرة، أنه مصاب بالمس وبجنون العظمة و تضخم الأنا، وأنه منفصل تماما عن الواقع وخارج السياق وسيخرج الذاكرة والتاريخ، مثلما لا يدرك أن قطار الثورة قد حط الرحال بعد تأخير طويل بأرض عمر المختار كمحطة ثالثة، ولن يغادرها قبل أن ينتزع "مجنون ليبيا" من الحكم إن لم يكن من الوجود، وأن الشعب الليبي كمختاره "ينتصر أو يموت" وأنه لايريد كالشعوب الأخرى إسقاط نظام غير موجود من الأصل، بل يريد إنشاء وخلق نظام من العدم لأنه لم يرى نظاما من قبل، يريد نظاما بلا قذافي ولا عائلته ولا أذنابه ولا كتابه ولا مسمياته ولا نشيده ولا علمه ولا أي شئ يمت له بصلة.
وكيف يستقيم النظام في خيمة...؟ والخيمة صاحبها مجنون...؟؟
بقلم: سعيد البيلال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق