
جراح الخريف
قصة قصيرة بقلم : حمة المهدي البهالي
أرخى الليل سدوله على يوم شاق من أيام تلك الأم الصابرة والمرابطة، تنتظر بدر الأمل على جلسة الشاي ॥ كل شي على ما يرام في سكون الليل الهادي ... يشعل ابنها سلامة المذياع، يطرق سمعها الخبر الأبرز في الأخبار اكتشاف مقبرة جماعية في السمارة المحتلة। ... يذكرها الخبر بجرح بقي ينزف في داخلها أكثر من ثلاثة عقود ॥ تحاصرها خيالات .. تغوص في بحر الذكريات ومشاهد .. أشلاء.. دماء...طائرات .. الناس تهرع من الخيام ... أصوات صراخ الأطفال والنساء ... صياح الماشية وهي تجفل ... الاختباء في الكهف .. جحيم على أنقاضه نجت هذه الأم المفجوعة ـ بفقد زوجها وبناتها الثلاثة وابنها محمد ـ لتروي حقيقة ما حدث في ذلك اليوم من جراح سقطت معها كل أوراق الخريف ... كنا سعداء نتنفس هواء تلك الأرض النقي ونرى الحرية من خلال شمسها البراقة والأرض الساحرة الفسيحة "بڤلابتها" التي تعانق السماء وأوديتها التي تأسر النظر ... أحببنا تلك الأرض لأننا تربينا فيها ... سلامة أنت كنت صغيرا كنت تعانق خروفك الذي كان سبب نجاتك .. كنت متعلقا به تلاعبه وتسابقه.. هو أيضا كان يحبك عندما تخلف عن الغنم في تلك الليلة.. لنجدتك । تتوقف آه لكن ـ دوام الحال من المحال ـ في ذلك اليوم الذي لا يمكن أن أنساه استيقظنا باكرا لان سلامة لم ينم ليلته من شدة التفكير بمصير خروفه الضائع والذي لم يرجع مع الغنم في المساء .. كانت السماء ملبدة بالغيوم وكنا ننتظر غيث السماء منذ فترة .. اتجهنا صوب الكهف الذي ترعى الغنم دائما حوله بحثا عن الخروف ... وصلنا إلى الكهف وبدأنا نفتش زواياه .. فجأة سمعنا أصوات تقترب بسرعة ... اهتز الكهف من شدتها.. صمت أذاننا .. حينها اختلطت زوابع الخريف بريح الاجتياح المغربي التي عصفت بالمنطقة وحولتها إلى رماد. . اختبأت الأم وخبأت ولدها ... داخل الكهف وشاهدت المجزرة بتفاصيلها من بابه الواسع .. رأت ابنها محمد وهو يسقط فتخفي وجهها وتغطي الصغير بملحفتها حتى لا يرى المجزرة .. زوجها يخرج سلاحا للصيد يواجه به.. وابل من قذائف الطائرات .. بناتها الثلاثة يقتلن الواحدة تلو الأخرى .. خيمتها التي نسجتها في وقت طويل تشتعل دفعة واحدة ... تيقن الغزاة ـ بعد قصف كل ما برز على الأرض من بشر أو حجر أو شجر ـ بفناء كل شي فغادروا المكان ... عادت الأم على استحياء وهي مثقلة بوقع الكارثة.. إلى ارض المعركة .. وجدت أشلاء جثث متناثرة... لم تميزها من شدة القصف كان أكثرها حظا ابنها محمد الذي أرادت له الأقدار أن لا يموت حتى يودعها ... وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة .. أمي ... لا تبكي .. لا تحزني .. سنلتقي يومـــــــــااااا... عدت إلى الكهف لأمضي بقية اليوم اهدي من روع سلامة الذي كان يرجف وتصطك أسنانه من شدة الهلع .. اخبي وجهي وأضم سلامة على صدري حتى لا يرى حزني العميق ودموعي المنهمرة.. انتظرت غياب الشمس لأستعين بظلام الليل على الابتعاد عن المنطقة التي ظل الطيران طيلة اليوم يحوم في أجوائها ويرمي بشرره .. نام سلامة .. استرحت من تلك الأسئلة المحرجة التي لم يتوقف عن طرحها...أين أبي ..محمد .. أخواتي .. خروفي .. من فعل هذا بخيمتنا.. حزمته على ظهري .. ليبدأ طريق النزوح الطويل والوعر على الأقدام .. ولا ندري إلى أين ينتهي المهم الابتعاد عن المنطقة .. بعد ليلتين من المشي يطلع الفجر من اليوم الثاني على سيارة مكتظة بالنساء والأطفال، حاولوا أن يجدوا لي ولصغيري مكانا بينهم ... فركبت .. كانت رجلاي متورمة وتنزف دما من طول السير ووعورة الأرض .. أخذت السيارة طريقا طويلا كانت تنفضنا حتى تورمت أجسامنا من شدة الإفراط في السرعة ... هربا من طائرات الغزاة التي لم تتوقف عن مطاردتنا بالقصف المكثف .. بحثا عن حياة لتقتلها. كنا في الطريق نمر على أشلاء أطفال ونساء وشيوخ منهم من عجز عن الفرار ومنهم من قرر أن يبقى في أرضه حتى لو كان الثمن روحه .. لا زلت اذكر تلك المرأة التي مررنا بها وهي تصرخ وتمزق ملابسها وتنادي بأعلى صوتها .. وقفنا لنقلها وإسعافها هربت خائفة من صوت السيارة .. ظنناها في البداية مجنونة ... فقيل أنها فقدت جميع عائلتها وبصرها بسبب الغازات السامة التي كانت تبعثها الطائرات... تعاطف الجميع معها وحاولنا التخفيف من وقع الصدمة إلا أن جرحها كان ينزف وبغزارة كان أعمق من جراحنا.. طمأننا احد الثوار .. انتم الآن في أمان رغم الحزن الذي كاد يقتلني .. أحسسته سكينا يعبث بداخلي . .سرطانا ينخر في جسدي .. إلا أنني حاولت إخفاءه لأنه لا يحزنني خسارة زوجي وأبنائي وارضي .. ففي الحقيقة هي ليست خسارة.. فهم نالوا شرف الشهادة ويسرحون الآن في أودية الجنة ويسبحون في النعيم الأبدي .. وإنما الذي يؤرقني هو أنهم قتلوا بتلك الطريقة أمام عيني وهم يحاولون التصدي للغزاة بسلاح الصيد البسيط ... أتدرون: كنا نحضر لزواج محمد الذي قتلته يد الغدر قبل أن أرى حلمي يتحقق في الحفيد الذي طالما حلمت به لينعم بالشهادة .. كان حينها يستعد للسفر ليقتني لوازم الزواج ويعلم باقي العائلة بموعده القريب .. محمد هو ابني البار الذي ذهب بي لأداء فريضة الحج في البقاع المقدسة كانت لحظات مفعمة بالإيمان .. ذقت بجانبه طعم الحياة .. محمد هو الذي كان لا ينام حتى أنام ولا يأكل حتى اشبع .. يمرض لمرضي ... ويسعد لراحتي .. ما أبعدكم من محمد رغم انه لم يدرس في مدرسة سوى مدرسة البداوة إلا أن أخلاقه فاقت أخلاقكم التي درستموها في جامعات الآداب ... انتهي بنا الطريق إلى هذه لحمادة التي بنينا فيها خنادق تحت الأرض نختفي فيها عن القصف كلما خلنا أو سمعنا صوت وفي الغالب كان أزيز الطائرات وأصوات القذائف والقنابل التي لم يكن يفارق أسماعنا من الصدمة الأولى مصدر رعب يلاحقنا...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق