/ بدون تصنيف / من روائع الكاتب والقاص الصحراوي سعيد البيلال

من روائع الكاتب والقاص الصحراوي سعيد البيلال

مخيم العيون.....قصة قصيرة
كان مسعود برفقة أصدقائه، المحفوظ والبشير و الحافظ وحْمَدَُو، على تلة قرب "مخيم العيون"، يفترشون حصيرا تتوسطه "طبلة شاي" ومرفقاتها، وقربهم حزمة من الحطب يزودون بها كل مرة نارهم الهادئة، يسامرون ليلهم البهيم وأعينهم صوب الموقد تارة والمخيم تارة أخرى، وكأنهم حراس - متطوعون - من نوع خاص، كانوا يلوكون نفس الحديث الرتيب، المفعم بالحسرة على أوضاعهم المزرية وعلى زمانهم الذي لفظهم بسبب جهلهم وفقرهم وأشياء أخرى، والذي كان ينتهي دائما بنفس اللازمة وهي تمني اختلاس فرصة الهجرة نحو الديار الإسبانية، بلاد الأندلس، "الفردوس المفقود"، على اعتبار ذلك الحل الوحيد للانتشال من المتاهة و الخلاص من البؤس، كانوا أثناء ذلك يدخنون بشراهة سجائر رديئة يتعالى دخانها كسحابة رمادية تشي بهم وبنارهم، وكان حينها جهاز الراديو القديم والمهترء يصدح بقصيدة " خْلَعَنا" بصوت الشاعر الكبير البشير ولد اعلي، لكن قهقهاتهم الغريبة كانت تعكر صفو سكون ليل البيداء وتغطي على صوت الشاعر، فهم على الأقل غير معنيين بالقصيدة القاسية، وكأنهم بكل ذلك في حرب لفرض وإثبات وجودهم واقتطاع عالم خاص بهم، ورسم حدود حياة هم وحدهم أسيادها..." فالإنسان في حاجة دائمة لثورة ما..لجغرافية ما..لسلطة ما..؟"
كان الجديد تلك الليلة فكرة لاحت لحْمَدَُو صاحب المقترحات الغريبة دائما، وهي الالتحاق بالمناطق المحتلة كفردوس بديل بعد أن استعصت الضفة الأخرى، فكرة ما إن نطقها حتى ثارت ثائرة المحفوظ المعروف بالتزامه الوطني وتطرفه تجاه الخيانة، مثلما أثارت الفكرة لدى البقية موجة من الاستهزاء والقهقهة، خاصة بعد سماعهم القصيدة الخالدة، وحده مسعود كان نشازا عن التعليق والموجة والقصيدة كذلك...وظل يدخن في هدوء تام، يلتهم السيجارة بنهم غريب، واجما غير آبه، ومركزا نظره في اتجاه نجمة في السماء الصافية.

بقي الجميع على تلك الحالة حتى انبلج الصباح ليتفرقوا زرافات كعادتهم في اتجاه خيامهم غير البعيدة، باستثناء مسعود الذي تركوه شاردا هناك...رفقة السيجارة والمذياع...والقصيدة..؟

وقف مسعود بباب القنصلية المغربية بالعاصمة الموريتانية، استقبله الموظفون بجفاء، وبعد أن أخبرهم قصته وغايته ومن ثم سلمهم وثائقه الثبوتية الصحراوية، قدموا له على مضض وببرود ـ يقترب من الاستهزاء ـ بعض الشروحات وضربوا له موعدا آخر لتسليمه "رخصة الدخول".

بقي لمدة الشهر كالمتسول رهين لتلك الوعود والمواعيد التي تتناسل مع الأيام دون أن يحصل على مراده، وأضحى وجوده وآخرين يتقاسمون معه نفس الغاية أمام القنصلية مشهدا روتينيا معتادا أقرب للشحادة منه للارتفاق، لكنه كان مستعد لأكثر من ذلك في مقابل ألا يعود لمخيمات اللاجئين و لأصدقائه القدامى، المحفوظ والبقية، ذليلا وخائبا، أولئك الذين كان يخبأ لهم مفاجأة الاتصال بهم حين يصل للعيون المحتلة ليسمعهم عبر الهاتف قعقعة مفاتيح المنزل ويعد على مسامعهم عدد نقود راتبه الشهري (الكارطية) كدليل مادي ملموس على النجاة والخلاص، وهو الذي غادرهم فجأة بعد ليلتهم تلك تنفيذا لفكرة بدت حينها مجنونة، لكنه التقطها من حْمَدَُو في صمت وشرود، وعزم على تطبيقها سرا مهما كلفه الأمر...ضدا على المحفوظ والقصيدة..

وفي الأخير وبعد إذلال واستجداء طويل تحصل على وثيقة القبول التي تخول له الدخول للمناطق المحتلة..." دخول فردي بشروط".

وصل لمدينة العيون المحتلة، المدينة الكبيرة، الفردوس الآخر، منتهى الخلاص، تحصل على الوثائق الثبوتية و حمل صفة " عائد" وأصبح بدوره مشمولا بقصيدة " خلعنا" بعد أن كان مجرد مستمع ومستمتع، كان يجول بناظريه في المدينة اندهاشا وإعجابا بالدور والشوارع والعمارات والساحات، من قال أن العيون مدينة جريحة..؟ من قال أن البسمة فارقت أهلها..؟ ومن قال أن الغزاة وحوش..؟ لا أثر للدماء على الإسفلت..!! ولا وجود للبربر هنا..!! لقد كانوا فقط يكذبون..!!

تعرف على أفراد من عائلته بالمدينة لكنهم عاملوه بازدراء وتجاهل (فروما لا تجازي الخونة. !! فكيف للعيون بذلك..!؟)، لكنه أثناء ملازمته لمقر ولاية الاحتلال للمطالبة ببطاقة الإنعاش ومفاتيح المنزل الموعود وجد بعض معارفه القدامى من الشباب الذين يحملون نفس الصفة والمنخرطين حديثا في حزب " خلعنا"، وبدورهم ساقتهم نفس الأطماع لهذه الظروف المزرية والمذلة والمهينة، والذين وجد فيهم ضالته أخيرا، بل رأى هناك وجوه مُسِنة مؤسسة لنفس الحزب ومعنية بالأساس بالقصيدة الخالدة بل كانت لها ملهمة – وجوه كان قد رآها من قبل بمخيمات اللجوء في غابر الزمان- تتقاطر بدورها على نفس المقر وتعامل باللامبالاة نفسها، والذين بالكاد عرفهم بسبب الشيب الذي غزى رؤوسهم، والتجاعيد التي أكلت وجوههم، والنحافة التي استبدت بأبدانهم، وكومة الهموم التي تثقل كواهلهم والتي تبرز بشكل جلي من خلال شاشات وجوههم المكفهرة، البائسة والتعيسة..." فلا شك أن للخيانة صدأ يصيب الوجوه بعد القلوب".

ظل مسعود لمدة ثلاثة أشهر أخرى يرتاد ذلك المقر دون جدوى، وبدأ وأصدقائه الجدد من الشباب في التفكير في صيغ للاحتجاج على ما رأوه غدرا وخيانة وعدم وفاء بالوعود، حينها أصبحت المدينة في نظره ضيقة وغريبة ومملة، وبدأ الشوق للخيام وأصيحابه هناك يتسرب إلى داخله، لكن شبح نظرات المحفوظ القاسية كانت تنغص عليه تفكيره وتقطع حبل شوقه.. تلك النظرات التي لم تفارقه لحظة منذ تلك الليلة...كانت قاسية، موجعة ومحرجة...مثلما كانت أبيات تلك القصيدة التي تسكن أذنيه عنوة قمة في الإيلام...( فما أشد نظرة المحفوظ ووقع القصيدة...)

وأثناء ذلك، وحين بدأ التذمر يعصف بهم والإحباط ينهش خواطرهم وموجات الحيرة المتلاطمة تلعب بعقولهم، تناهى إلى مسامعهم أن الصحراويين...كل الصحراويين انتظموا في مخيم احتجاجي خارج أطراف المدينة، وبدون تفكير التحقوا بمنطقة "أكديم إزيك" حيث مخيم الكرامة...فلا أروع من ذوبان في فنجان الأوطان...

نصبوا خيمتهم وسط آلاف الخيام، وكأن الخيام قدرهم !! وكأن المدينة فرح مؤجل حتى تطوى الخيام..؟ وكأنهم يجربون النزوح بعد اللجوء.!! أو بالأحرى اللجوء مرتين.. خارج الوطن وداخله.. !! هو قدرهم إذن المصلوب بين الأوتاد... !مثلما هو قدرنا المربوط بين الأصفاد.. ! أو لعله مصيرنا جميعا ذاك المرهون بالحديد...في انتظار الجديد.. !

ذابوا وسط موجة من النازحين دون أن يُسألوا من أنتم؟ ولا من أين؟، ففي "وطن الخيام" لا وجود للاحتلال ولا للتمييز ولا للتفرقة ولا التفاضل... وطيلة الشهر عاش مسعود حياة سعيدة وهانئة بمخيمه الجديد هنا بالعيون النازحة الذي هو محاكاة غريبة لمخيمه القديم هناك بالعيون اللاجئة، فهل هي العيون بمخيمين..؟! أم أنه المخيم بعيونين..؟! أم هي حياتنا المتشابهة على ضفتي جدار الذل والعار..؟!

دأب مسعود وأصدقائه الجدد كل ليلة على افتراش حصيرهم على تلة قريبة من "مخيم العيون" وارتشاف أكواب من الشاي والتهام سجائر من نفس النوعية الرديئة ( يا لا التشابه.. !)، فعلى الأقل هنا شفي من المدينة الرتيبة وتخلص من العزلة ونظرات الشك والريبة وتحاشي الناس والإحساس بالدونية وبثقل الخطيئة، وتناسى "الدار والكارطية" ولو إلى حين، وغسل ذنوبه كالبقية في هذا الحمام التقليدي الكبير...فيكيفه الآن أنه يناضل رفقة الجميع دون استثناء من أجل قيم أكبر من كسرة خبز ومفتاح وراتب... كالحرية والكرامة والعيش الكريم وسط تكافل وتعاون وتآزر قل نظيره، رغم تحرشات وتضييق واستفزاز الجيش المغربي الذي يحاصر المكان.. ويقيم جدار ذل وعار آخر حول المخيم من كل صوب...وكأن الجدار قدر آخر ينتصب قرب كل مخيم يقام..!!

وفي فجر ذلك اليوم الدامي، فوجئ مسعود كبقية النازحين بهجوم ليلي غادر من طرف مختلف أجهزة الاحتلال (الأوغاد تعلموا منا هجوم الفجر)، كان هجوما عنيفا، قاسيا ووحشيا بكل المقاييس، وكانت معركة بل ملحمة غير متكافئة بين نازحين عزل إلا من الإرادة والعزيمة وجيوش مدججة بمختلف الأسلحة القاتلة، سقط المئات من الصحراويين بين شهيد وجريح، وسيق المئات من الأبطال الأشاوس والبطلات العفيفات نحو الدهاليز السرية والمخافر النتنة والسجون العسكرية والمدنية، وكان مسعود بدوره جريحا ومصابا بعد أن شارك بشجاعة ورفاقه ـ الذين اعتقل بعضهم ـ في الملحمة التاريخية، وتحسر أمام هول ما رأى على سلاحه الذي تركه مهملا في خندقه الأول، وهو الذي لم تسنح له قط فرصة إطلاق رصاصة هاهو يسجل أروع مشاركة في المقاومة المدنية بمجرد شعار وعلم وحجر... !

ولأنهم يعتقلون كل من التجأ للمستشفى فقد حمل جراحه نحو عجوز صحراوية تكفلت بمداواته بطرق تقليدية...وبدورها لم تسأله من يكون؟ فالجراح في أحيان كثيرة مثلما هي "ذاكرة جسد" فهي كذلك "بطاقة هوية"..!!

ظل مسعود لأيام متخفي كبقية الصحراويين يخيط جراحه النازفة ويرمم ذاكرته المشوهة، كان يجول بالمدينة خلسة كالكثيرين، بدت حينها العيون موحشة بفراغها ومخيفة بصمتها، لكنها عصية أبية وشامخة وعذراء رغم محاولات الهتك ( تبقى الأسود أسود والكلاب كلاب ) وما فتئ أن استجمع وبقية أصدقائه الجدد حاجياتهم القليلة وعقدوا العزم على المغادرة والعودة إلى هناك، إلى الضفة الأخرى، فلم يعد ما يغريهم هنا، تبا للمفاتيح والرواتب وكسرة الخبز..!! فمواقعهم هناك، في تلك الخيام التي لا تحتاج لمفاتيح..!! وفي تلك الخنادق التي تتسع لكل المتطوعين..!! إلى حين فرض العودة الجماعية بشموخ وعزة وكبرياء إلى وطن خال من الدنس...وأثناء ذلك لاح بناظريه تجاه شوارع العيون مودعا هذه المرة، نعم إنها مدينة جريحة..!! ودماء أهلها لا زالت نازفة على الإسفلت..!! وغزاتها قمة في البربرية.. ! إنهم كانوا صادقين..!!

عادوا من نفس الطريق الأولى...ولم ينسى مسعود أن يعود للقنصلية المغربية سالفة الذكر، لاسترجاع بعض الكبرياء كان قد تركه مؤقتا هناك في زمن التسول والاستجداء، حيث رمى في وجوه نفس الموظفين وثائقهم اللعينة، نزع عنه جبة "العائد" وقميص "خلعنا"، وخرج مزهوا بانتصار طفيف وبابتسامة الشفاء من الهوان والإذلال، كما عمل على تنوير بعض الصحراويين المرابطين قرب باب المهانة في انتظار ارتداء "الجبة والقميص"، حيث روى لهم حكايته الأولى وكشف لهم حقيقة الأمور وسراب غايتهم، وأقنع بعضهم بالعدول عن خوض المغامرة الفاشلة وعادوا كلهم بكرامة إلى مخيمات العزة والكرامة।

في نفس ليلة الوصول، تذكر بشوق طافح أصدقائه القدامى، المحفوظ والبقية، وقرر على الفور الالتحاق بهم، توجه صوب تلتهم غير البعيدة، كان في طريقه يسمع ضحكاتهم تعلن عن وجودهم، وأخيرا وصل، وجدهم هناك كالعادة، كانوا فقط ثلاثة، المحفوظ والبشير والحافظ، تساءل في نفسه أين حْمَدَُو..؟ رمق المكان بعين فاحصة، لم يتغير أي شئ، نفس الحصيرة، نفس المذياع يصدح هذه المرة كذلك بنفس القصيدة " أخلعنا"، ما خطبه هذا الشاعر..؟ نفس السجائر، ونفس الأجواء، ونفس الوجوه باستثناء حْمَدَُو.. ..!!

وما إن رأوه حتى قفزوا نحوه، عانقوه بحرارة، وسألوه بلهفة أين كان مختفي كل هذه الشهور، خمن الحافظ أنه كان في الريف بالمناطق المحررة، البشير فكر أنه كان في الجزائر، التفت المحفوظ متلهفا تجاهه: بالله عليك أين كنت كل هذه المدة؟ عاد الحافظ للسخرية قائلا: هل كنت شاردا منذ تلك الليلة التي تركناك هنا ؟! وانطلقوا كالعادة في هستيرية من الضحك...كان يتفحصهم بعينيه اشتياقا وشفقة، وكان جل تركيزه مصوب تارة نحو جهاز الراديو اللعين الذي يصر على حك الجرح وإعادة الأسطوانة...وكأن شاعره استوطنه للأبد... !وتارة أخرى تجاه المحفوظ، ربما استحياءا أو خجلا من وفائه الأسطوري، وبعد تردد طأطأ رأسه وأجاب بصوت مبحوح: كنت في المناطق المحتلة؟ كان ذلك كفيلا بعودة رفيقيه للسخرية وضحكهم اللا متناهي غير مصدقين..!! وحده المحفوظ رمقه بنظرة ثاقبة وبتكشيرة علت وجهه الحزين..وتمتم قائلا: خلعنا...!!

لكن مسعود لم يبالي لكل ذلك واستل سيجارة من جيبه، تفحصها قليلا، أشعلها وشرد بعيدا...هذه المرة كان يفكر كيف سيناضل من موقعه هنا؟ من خندقه؟ من أجل جلب الخلاص للجميع لا الهروب الفردي منه أو الهجرة الأحادية إليه...من أجل العودة الكريمة لا التسلل المهين... وكان يتساءل في نفسه مجددا: أين حْمَدَُو...؟؟؟

وفي معمعة ذلك..قرر أن تكون آخر ليلة سهر...وآخر شرود...بل آخر سيجارة..؟

في انتظار قبر











سعيد دمبر... شاب ثلاثيني العمر... صحراوي الانتماء والهوية... كان مقبل على الحياة بشغف وعنفوان... قبل أن تنهيها "طلقة نارية قاتلة " من مسدس حاقد لشرطي مغربي جائر...ذات ليلة ظلماء من شهر كانون الأول 2010...بالعيون الجريحة... فمن قال أن الحرب قد توقفت...؟ من قال أن وقف إطلاق النار ساري المفعول...؟ ألغام تيرس ولخيالات والسكن تفند ذلك...ورصاصات " الشاب دمبر " وقبله " الطفل الكارحي" تكذب ذلك...

سعيد دمبر... برعم من ربيع لم ينهي زحفه بعد... قمر اصطادته أيادي المساء الآثمة...ضدا على نوره الساطع...في زمن العتمة الذي يصادر كل بقع الضوء...كان قدره أن يموت مرتين...حين قضى نحبه وحين غابت الحقيقة...مثلما كان قدره أن يدفن مرتين.. حيث وارى جثمانه الطاهر ثلاجة نتنة في انتظار قبر موحش... وفي انتظار فك طلاسم ألغاز " الجريمة البوليسية" وتفاصيل الحكاية...حكاية " الشرطي الشقي" و" العصفور سعيد" الذي تناثر ريشه ذات ليلة في دهليز مظلم...فسجل الحادث ضد مجهول... وبقي الشرطي طليقا يسرد روايته...وتاهت الحقيقة...فهي الضحية الأولى للحروب.. دائما وأبدا...

قصة سعيد... هي قصة قنص رهيبة لكائن أصر رغم أنف الاحتلال على الحياة... دوس قدم آثمة على زهرة أمعنت في التفتح في زمن التعتيم... قطف رأس شامخة أبت الطأطأة لمشيئة " احتلال" في ثوب جلاد....هي ببساطة تصفية " خارج القانون" لمتهم ضبط متلبس بحيازة " لا"...

حكاية سعيد... حكاية أليمة...بطلها ثائر كان يحلم بوطن...فأيقظته رصاصة غير طائشة " لقناص محترف" ليعاود الموت بعد أن بصق في وجه قاتله... هكذا نحن...؟ نموت نقاوم الجلاد... نبتسم... نستهزئ... نرمقه جيدا... نودعه بابتسامة و نظرة عميقة تشرع " للعنتنا المؤجلة" باب الثأر بعد موتنا...كم هي غريبة نهايتنا مثل بدايتنا...كلها كفاح...

أم سعيد... أم فاضلة... تغالب دموعها بكبرياء وتكتم في المهد حشرجة البكاء... وتقف بشموخ أمام بيتها في ذلك الزقاق الذي أضحى منذ " الواقعة" قبلة للمتعطشين للارتواء من إكسير الصمود والراغبين في التزود من فائض الممانعة... هي الأم التي وهبت طفلها قربان وفاء على مذبح الحرية وعربون إباء على منصة الكرامة...وعلمت كل الأمهات أن احتضان الحقيقة سابق على النواح...؟

أهل دمبر...عائلة مكلومة... أدماها الوجع...أضناها الألم...تحاكي ليلها الطويل رفقة الآنين والآه وأحلام يقظة تمتطي صهوة كوابيس رهيبة مع اقتراب كل مساء....لكنها لا زالت صامدة حتى وصول موكب الحقيقة... فهي مثل كل العوائل الصحراوية الأبية تأبى الاستسلام للحزن...ولجلاد يحاول خلسة تسليمها " الرفات" في جنح الظلام كسلعة مهربة... فهي لا ترتضي غير قرص الشمس...إشراقة الصباح... الأجوبة المصادرة... لأسئلة مؤرقة...متى...؟ لماذا...؟ وكيف...؟ ولأنها تعلم أن الرمال تبتلع كل شئ....الكفن وصاحبه والحقيقة كذلك...لذا أبت أن تشق الأرض قبل أن تخيط جرحها النازف...

إنها واحدة فقط من حكايات زمن الاحتلال البغيض...التي لن تنتهي إلا بانتهائه...

فمتى ذلك... ؟؟


مات قبله ودفن بعده



هذا ليس سؤالا أو لغزا أو " تحاجية "، هو ببساطة عنوان لحكاية من مسلسل حكايات زمن الاحتلال التي لم تنتهي بعد، حكاية " والد وولد"، الأب " سيد أحمد عبد الوهاب دمبر" الذي فارق الحياة منذ خمسة أيام بعد حزن طويل على إبنه "سعيد دمبر" الذي اغتيل منذ تسعة أشهر بدم بارد على يد شرطي مغربي...وفيما وارى الوالد الثرى...لا زال الولد في انتظار قبر...؟ فمن قال أن إكرام الميت دفنه..!؟ ليأتي لوطننا ليرى كيف يهين الاحتلال أمواتنا وأحيائنا على حد سواء..!!

هي حكاية أليمة وموجعة ليست من وحي الخيال، ولاهي قصة قصيرة من بنات أفكار أديب مرهف الإحساس، ولا هي شطرا من قصيدة حزينة لشاعر متيم يذرف دموع الفراق على أطلال القبيلة...؟ بل هي حقيقة ساطعة تختزل كيف تعايش شعبنا المستضعف مع قدر الموت القادم مع رياح الشمال، وكيف يتسابق أفراد العائلة الواحدة لارتداء عباءة شرف الشهادة في الحال والدفن بعد حين..!! وكيف لا زالت آلة الحتف تحصد شيبنا وشبابنا لتقديمهم قرابين مباركة لكهنة البربر الذين ألفوا شرب الدماء العربية المغنومة من غزواتهم على الجنوب.

إنها قصة المناضل " سيد أحمد دمبر" الذي ولد في "منطقة كلتة زمور" في عمق الوطن المحتل منذ ثمانين حولا ولم يسئم...ليتم نفيه لمدة ثلاثة عقود من عمره على خلفية مبادئه الراسخة في اتجاه " مدينة فاس" في عمق دولة الاحتلال...قبل أن يعود وعائلته إلى الاستقرار نهائيا بعاصمة الوطن المحتل...حاملا معه الكثير من الشوق والذكريات المريرة وأبناء رأوا النور في المنفى وكبروا رفقة الوجع والاغتراب...لكنهم حافظوا على حسانية اللسان وبيظانية البيان مثلما حفظوا تقاسيم جغرافية الوطن وتفاصيل تاريخ القضية...

هو الأب العطوف الذي فقد إبنه ذات ليلة غدر...وأبى أن يتسلم الرفات قبل احتضان الحقيقة...فقد تعلم على مر السنون أن المبادئ غير قابلة للتجزيء....وأن الثوابت لا تلبس نقاب التقية في حضرة الوطن...وأن من انحنى مرة سيستديم الانبطاح...هو المجاهد الكبير الذي أفنى حياته كلها في خدمة الوطن الذي لم ينعم برائحته كثيرا... هو الشيخ القدير الذي قضى بعد فاجعته في نجله تسعة أشهر في " بطن الحزن" قبل أن يطرحه مخاض الموت في أحد مستشفيات العاصمة المغربية بعد معاناة طويلة مع مرض جسدي عضال.. ومآسي كثيرة مع احتلال بغيض قتله مرتين....حين هجره من الوطن وحين اغتال فلذة كبده ..!!

هو الفقيه الجليل...الذي عاش متأبطا كتاب الله...ومات حاملا له وحافظا أياه بين ثنايا صدره حين رفرفت روحه ذات فجر من جمعة في رمضان...ويا لها من ميتة كريمة في ساعة طيبة في يوم عظيم في شهر مبارك... هو العالم الرباني الذي ربى أبنائه وبناته على القناعة والإيمان وحب الوطن..نعم.. فالقناعة كنز لا يفنى وحب الأوطان من الإيمان... هو المناضل الجسور الذي وافته المنية في عاصمة الاحتلال لكنه أوصى بدفنه في العاصمة المحتلة...نعم...فمن عاش عظيما في المنفى لابد أن تدفن عظامه في الوطن... فنحن إما أن نعيش عظماء على أرضنا أو عظاما في جوفها..!!

مات الأب المناضل وفي صدره حسرة...وفي قلبه لوعة... لكنه لم يستسلم ( للاحتلال ) ولم يسلم ( اللواء) ولم يتسلم ( الرفات )...وليس ذلك بغريب على رجل ليس كالرجال...عاش شامخا ومات كذلك... قضى سنوات عمره مبعدا عن وطنه من أجل أللا يركع لمخلوق...ومن أجل أللا يسجد لغير الخالق...رجل من طينة العظام علمنا جميعا كيف أن الرضوخ للاحتلال مرة واحدة هو مقدمة لتسليمه الوطن بالمرة... لذا فضل الممانعة في منافي الاحتلال على المهادنة في فيافي الوطن المحتل...مثلما انحاز إلى خيار الموت حزنا على فقد الولد على تسلم رفاته بدون كفن الحقيقة...أو لربما كان شوقه للقاء ابنه في الحياة الأخرى أقوى من كل ارتباط بهذه الحياة المدنسة بحوافر قتلة إبنه المطعون من الخلف مثل وطنه...وكأن الأقدار تخبأ لنا دائما طعنة أو رصاصة من الخلف على يد نفس القاتل اللعين..!!

كم هي غريبة هذه الحياة...الأب الذي أصر على معرفة ملابسات موت ابنه قبل دفنه...تشاء الأقدار والأحزان أن يموت بعده ويحظي بقبر قبله... ليبقى الولد بمستودع الأموات في انتظار قبر..!! والوالد بمقبرة الأموات في انتظار إبنه..!! إنها تجربة أخرى من تجارب الانتظار التي ابتلي بها شعبنا..!!

سيبقى التاريخ حافظا لهذا الشيخ الجليل مواقفه الصلبة...ولهذه العائلة الصابرة صمودها الأسطوري وفائض ممانعتها... مثلما ستبقى الجغرافية حافظة لجثمان الوالد في انتظار احتضان رفات الولد..!!

فطوبى لها من عائلة فقدت الولد والوالد وما بدلت تبديلا... وهي التي عايشت كل أشكال الفقد...حين ربت أبنائها في المنفى بعد فقدان الوطن...وحين بدأت في فقدان ذويها تباعا بعد عودتها للوطن..!! وكأن الأحباب والوطن لا يجتمعان... !!

وطوبى لكل الممانعين في زمن الخنوع هذا..!!














الكاتب والقاص الصحراوي سعيد البيلال



عن الكاتب :

شاب مغربي أحب كل جديد في عالم الانترنت من مواقع وبرامج واحب التدوين ودائما ابحث عن الجديد لتطوير مهاراتي في مختلف الميادين التي تعجبني لكي انقل معرفتي وتجاربي لآخرين حتى يستفيدوا بقدر ما استفدت انا ;)
الموضوع السابق :إنتقل إلى الموضوع السابق
الموضوع التالي :إنتقل إلى الموضوع القادم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

your widget

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

انضم إلينا