
كلاب "بافلوف"
أتيحت لي الفرصة لحظور جلسة نقاش مفتوح بين صحافيين تونسيين حول دور الصحافة في المرحلة الانتقالية التاريخية التي تمر بها بلادهم بعد ثورة الياسمين. وكانت إحدى الجلسات عبارة عن لحظة بوح صريح لتقييم أداء الإعلام في العهد السابق. وكانت لكثير من الصحافيين الشجاعة للقول بأن الإعلام الذي كانوا يمارسونه لم يكن سوى نوع من "البروباغوندا"، وعرفت الجلسة شهادات كانت عبارة عن جلسات علاج نفسي لتفريغ ما بدواخل النفوس.
وفي إحدى تلك الجلسات اعترف حميدا بن رمضان، المدير الحالي لجريدتي "لابريس" و"الصحافة"، بأنهم كانوا يكتبون طبقا للتعليمات. وقال إن هاجس الخوف الذي كانوا يشتغلون تحته كان يدفع الرقيب إلى الشطط في ممارسة رقابته. وحكى أنه كتب ذات يوم مقالا في الصفحة الدولية التي كان يشرف عليها حول الموضوع النووي الإيراني، تم حجبه بدون سبب، كما جرت العادة، فأخذه وأعاد نشره على موقع بالانترنيت، ولما كان له صدى طيبا، تمت مساءلة الرقيب لماذا منع نشره. وقال بن رمضان إن المشكل الذي كان يرهق كاهل هيئة التحرير هو اختلاق موضوع يبرر نشر صورة الرئيس في الصفحة الأولى، "التقليد" الذي كان مفروضا حتى لو لم يقم الرئيس بأي نشاط يوجب نشر صورته على صدر الصفحة الأولى.
وفي شهادة أخرى قال رضى كافي، وهو صحافي كان معارضا للنظام السابق، وصاحب موقع إلكتروني مستقل، إن ذكاء الناس كان دائما يتجاوز صحافة الدكتاتور، فالناس كانت على علم بما لا تستطيع تلك الصحافة نشره، وهو ما أفقدها مصداقيتها. وفي نفس السياق قال رشيد خشانة الذي كان يدير أسبوعية معارضة في زمن زين العابدين بن علي، إن الصحافة التونسية لعبت أسوء أدوارها إبان فترة الثورة التونسية، عندما وقفت إلى جانب الدكتاتور ضد إرادة الشعب.
أما إحدى الصحافيات التي كانت تشتغل بالتلفزيون الرسمي للدولة فاعترفت أمام الملأ بأنهم كصحافيين كانوا يعملون تبعا للأوامر التي كانوا يتلقوها لدرجة أنهم لم يعودوا يتصرفون بدون أوامر. وشبهت وضعهم الحالي بكلب "بافلوف"، العالم الروسي الذي نجح في السيطرة الإرادية على بعض السلوكات الغريزية لدى الكلاب، وذلك من خلال عملية غسل مبرمجة لإخضاع الكلاب والتحكم في توجيهها كما يشاء.
علي أنوزلا
وعندما استحضر اليوم هذا النقاش الشفاف، مع ما يجري داخل الساحة الصحافية المغربية، وخاصة داخل ما يسمى بالإعلام الرسمي، أكاد أشفق على حال الصحفيين الموظفين اللذين لا يجدون ما يبررون به سكوتهم على رداءة الإعلام الذي يساهمون في إنتاجه، سوى قولهم بأنهم مجرد موظفين !
إن منطق الوظيفة قد يسمح لأي موظف أن يطبق التعليمات التي تفرض عليه وبدون مناقشة، إلا في مجال الصحافة التي تعتبر اختيارا قبل أن تكون مهنة تخضع لمنطق التعليمات.لا أدري لماذا شرد بي ذهني بعيدا عندما كنت أستمع إلى شهادات الزملاء التونسيين، فتخيلت وضعهم مثل أبطال رواية "رجال تحت الشمس" لغسان كنفاني، اللذين ماتوا اختناقا من شدة خوفهم، ولم يجرؤوا على طرق الصهريج ليرفعوا صوتهم لا ليقولوا بأنهم هاهنا أحياء يرزقون، وإنما ليقولوا بأنه ما زالت لهم ضمائر حية تحس بنبض الشعب الذي ينتمون إليه !
تعليق:أتمنى أن لاتنطبق أفكار هدا المقال على مثقفينا وصحفيينا،لأن منطق الوظيفة كما قال الكاتب قد يسمح لأي موظف أن يطبق التعليمات التي تفرض عليه وبدون مناقشة، إلا في مجال الصحافة التي تعتبر اختيارا قبل أن تكون مهنة تخضع لمنطق التعليمات।
الأستاد:التاقي مولاي أبراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق